التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حرمة الاستغلال خطبة جمعة

حرمة الاستغلال خطبة جمعة

استغلال حاجة المحتاج في نظر الإسلام


اتَّضح مما أسلفنا أن الإسلام يعتمد في بناء المجتمع على جُملة من المبادئ، أهمها في الجانب المادي من الحياة: مطالبة كل فرد من أفراد المجتمع بالعمل على تحصيل رزقه الذي يَكفل حاجته، ويوفِّر له حياة نفسية هادئة، وأشعر الإسلام - بجانب هذا - الأغنياءَ الذين آتاهم الله من ماله، أن هذا المال وإن كان معقودًا في ملكيته بأسمائهم، إلا أن حقَّ الانتفاع به مشترك بينهم وبين إخوانهم الفقراء، الذين يكوِّنون المجتمع معهم، ويكون راحته من راحتهم، واضطرابه من اضطرابهم، مُشترك بينهم وبين المصالح العامة التي تحتاج إليها الجماعة في راحتها واستقرارها وإدارة شؤونها، وبعد هذا أوجب الإسلام مدَّ يد المعونة إلى الفقراء والمساكين وأرباب الحاجات؛ إما بالبذل، أو بتهيئة العمل، كما أوجب مدَّها إلى أولياء الأمر بما يُمكِّنهم من إقامة المصالح التي تُحقِّق خير الجماعة.

ووضعًا للمعونة في موضعها، ووقوفًا بها عند الحد الذي يرفع عن كاهل المحتاجين عِبء الضرورات المُقوِّمة والحاجات المُيسِّرة والمصالح النافعة - حذَّر الإسلام كل التحذير من الإسراف وإنفاق الأموال؛ حيث لا ضرورة تُلجئ إليه ولا حاجة تَقتضيه.

على هذه الأُسس التي تقتضيها الأخوة والتراحم والتعاون، والاشتراك في الإحساس، وتبادُل الشعور بين الأفراد بعضهم مع بعض، وبينهم وبين الدولة - امتَلأ القرآن في مكِّيه ومدنيِّه بآيات الحثِّ على الإنفاق على الفقراء والمساكين، وفي سبيل الله، وقد وجهت العناية الكبرى في ذلك إلى قضاء الحاجات الشخصية التي تَطرأ على الأفراد، فتُوهِن من قوَّتهم، وتُضْعِف من رُوحهم، ولا ريب أن قلقهم في الحياة - مع رؤيتهم تمتُّعَ إخوانهم الأغنياء - مما يضاعف همَّهم، ويَفتح لهم شرَّ النوافذ التي يُعكِّرون بها على الجماعة صفو الحياة، ويُزَلْزِلون عليها عناصر الأمن والاطمئنان.

بهذا الوضع الذي انتهجه الإسلام في بناء المجتمع، وربَط به بين أفراده بما يجعلهم كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وكالجسم الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعَت له سائر الأعضاء بالسهر والحُمَّى، وكاليدين تَغسل إحداهما الأخرى، بهذا الوضع الذي يُركِّزه الإسلام ويدعو إليه، ويُحذِّر مخالفته أو التهاون فيه، ويعتبر التهاون فيه إلقاءً بالأنفس إلى التَّهلكة - بهذا كان من غير المعقول أن يُبيح الإسلام للغنيِّ القادر من أبنائه أن يستقلَّ بمُتعة ماله، وأن يَنفرد بحق الانتفاع به، دون أن يَمُدَّ يده لسدِّ حاجة المحتاج من إخوانه أو دولته.

وقد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((المسلم أخو المسلم؛ لا يَظلمه، ولا يُسْلِمه))، ومَن ترَكه يجوع ويَعرى - وهو قادر على إطعامه وكسوته - فقد أسلَمه، وصحَّ عنه أنه قال: ((مَن كان معه فضلُ ظهرٍ، فليَعُد به على مَن لا ظهر له، ومَن كان له فضلُ زادٍ، فليَعُد به على مَن لا زاد له))، ويقول الراوي: "ثم ذكَر أصناف المال، حتى رأينا أنه لا حقَّ لأحدٍ منا في فضله"، ويقول عمر بن الخطاب: "لو استقبَلت من أمري ما استدبَرت، لأخَذت فضول أموال الأغنياء، فقسَّمتها على فقراء المهاجرين".

وإذا كان من غير المعقول في الإسلام - وموقفه هكذا من مبدأ التعاون - أن يُباح للغني أن يَقبض يده عن معونة أخيه الفقير، أو عن المساهمة في إقامة المصالح العامة؛ فمن غير المعقول بوجه أبعدَ وأشد، أن يُباح له شدُّ الخِناق على رقبة أخيه الفقير، أو دولته المحتاجة، فيَفرض عليه أو عليها في مقابلة المعونة الواجبة دراهمَ معدودة يردُّها إليه أخوه الفقير المحتاج، أو دولته الفقيرة المحتاجة، زيادةً على رأس ماله الذي أقرَضه إياهم؛ سدًّا للحاجة أو إقامةً للمصلحة.

ومن هنا حرَّم الإسلام - إبقاءً على هذه المبادئ الإنسانية - تحريمًا قاطعًا، أن يتَّخذ الغنيُّ حاجةَ أخيه الفقير، أو دولته المحتاجة، فرصة لاكتساب المال عن هذا الطريق الذي لا خير فيه للمجتمع ولا للأفراد، والذي يجعل الغني في تربُّص دائم لحاجة المحتاجين، يستغلها في زيادة ماله، دون عملٍ يُحقِّق به نسبته إلى المجتمع، وجزئيَّته في بنائه، والذي ينزع من قلبه الشعور بالوحدة، ومعاني الرحمة والعطف التي هي من خصائص الإنسان الفاضل.

وقد جاء في القرآن: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ [البقرة: 275]، وجاء: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 278 - 279].

وهذا هو الأصل في تحريم الإسلام على أهله المعاملةَ المعروفة باسم الربا.

وقد جاء وقلوب الناس فارغة من معاني الرحمة والتعاون؛ يأكل قويُّهم ضعيفَهم، ويستغل غنيُّهم فقيرهم، ولا فضل للغني سوى أنه ذو مالٍ، ولا ذنب للفقير سوى أن ظروف حياته لم تهيِّئ له مواد الغنى وسُبل الكسْب، وفي هذا الجو المُظلم تفتَّق جَشَعُ الأغنياء عن هذه المعاملة، وتقاضَوا ممن يُداينونهم بقرضٍ أو ثمنٍ - في مقابلة تأجيل القضاء - زيادةً عن رؤوس أموالهم، واتَّخذوا ذلك سبيلاً لجمْع الأموال وتكديسها من دماء المحتاجين، وبذلك نشأت الرأسمالية الطاغية، فمزَّقت الإنسانية، وجعَلت أفرادها أشبه بحيوان الغاب؛ الغني يَطمع، فيَفترس الفقير، والفقير يَحقد، فيَفترس الغني، ولكلٍّ سلاحه الذي يَقتل به أخاه.

جاء الإسلام والناس على هذا الوضع السيِّئ، فأفرَغ جُهده في القضاء على منابع الشر، وأخذ - بمبادئه الحكيمة - يُزيل الحواجز التي قطَعت ما بين الناس من صلات التراحم والتعاون والبر والإحسان، وأخَذ يَبني المجتمع بناءً واحدًا متماسكَ اللَّبِنات، مُتضامَّ الوحدات، وكان أوَّلَ ما اتَّخذه من ذلك في الناحية الإيجابية الحثُّ على التعاون والتراحم، وأخْذُ القادر بيد الضعيف، ووصْلُ ما قطَعوا من صلات، ثم كان تحذيره الشديد فيما يختص بالناحية السلبية، فحرَّم الربا والرِّشوة، بعد أن حرَّم الشُّح والبخل والضنَّ بحق الفقير والمسكين.

ولإظهار ما بين الناحيتين من تفاوُتٍ، قابَل القرآنُ الكريم في كثير من آياته بينهما، ووضَع أمام الأبصار سورة مُضيئة هي صورة التراحم المطلوبة، وبجانبها صورة مُظلمة هي صورة الاستغلال المَمقوتة؛ كي يُمعِن الناظرون في الآثار الطيبة لصورة التراحم، والآثار السيئة لصورة الاستغلال، فيكونَ لهم من هذا الوضع ما يردُّهم عن احترام صورة الاستغلال إلى احترام صورة التراحم؛ وبذلك تتحقق إنسانيَّتهم الفاضلة، ويسيرون في الحياة بخطوات متَّزنة في البناء والتشييد، فيَنعمون بالحياة، وتَنعَم بهم الحياة.

ومن هنا لا نكاد نجد آية من آيات التحذير من مبادئ الاستغلال، إلا وبجانبها آية أو آيات تُعلي من شأن البذل والمعونة والتراحُم، وإن شئت فاقرأ من سورة البقرة المدنية الآيات: من الواحدة والستين بعد المائتين: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]، إلى الآية الثمانين بعد المائتين: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 280].

واقرأ من سورة آل عمران المدنيَّة الآية الثلاثين بعد المائة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 130]، إلى الآية الرابعة والثلاثين بعد المائة: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134].

واقرأ من سورة الروم المكية الآيتين الثامنة والثلاثين والتاسعة والثلاثين: ﴿ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ [الروم: 38 - 39].

اقرأ هذا كلَّه بعين البصيرة، وتدبَّرْه برُوح الإيمان الصادق - تَعرفِ الهدف الذي لأجله حرَّم القرآنُ الربا، وأكْلَ أموال الناس بالباطل، وسدَّ أبوابه وأحكم السدَّ على أهله وأتْباعه، وتَعرفْ أنه هدفٌ يتَّصل اتصالاً وثيقًا ببناء المجتمع بناءً متينًا، تتفاعل وَحداته بإحساس واحد واتجاه واحد وغاية واحدة، وليس دون هذا المجتمع يريد الله.
حرمة الاستغلال خطبة جمعة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مطلوب إمام مسجد في أمريكا بالشروط التالية

مطلوب إمام مسجد في أمريكا بالشروط التالية: فرصة عمل : إمام لمسجد دار السلام في مدينة أرلنجتون تكساس - الولايات المتحدة الأمريكية المؤهلات المطلوبة:  1 - حفظ القرآن الكريم كاملا بصوت حسن  2 - حاصل على الدكتوراة في الشريعة الإسلامية  (الفقه أو التفسير أو الحديث...) 3 - يجيد التكلم باللغتين العربية والإنجليزية (أو على الأقل يمكنه التواصل باللغة الإنجليزية) 4 - ذو خبرة في التعامل مع الأطفال والشباب الرجاء إرسال صور عن السيرة الذاتية والشهادات الجامعية والخبرة وتسجيل صوتي من تلاوة القرآن الكريم على البريد الإلكتروني: Search_darelsalam@yahoo.com

تحميل وطباعة جدول الدروس اليومية لكل إمام مسجد تصميم رائع

الشيخ يونس صابر تحميل وطباعة جدول الدروس اليومية لكل إمام مسجد - تصميم رائع من تصميم الشيخ يونس صابر من مديرية أوقاف القاهرة - شمال القاهرة التحميل من خلال هذا الرابط http://www.mediafire.com/?l6iogw0wntyj99h تحميل وطباعة جدول الدروس اليومية لكل إمام مسجد - تصميم رائع

لائحة التفتيش في وزارة الأوقاف

لائحة التفتيش في وزارة الأوقاف مقدمة لائحة التفتيش في وزارة الأوقاف اضغط هنا أعمال التفتيش اضغط هنا تعليمات يجب مراعاتها بكل دقة اضغط هنا واجبات المفتش المساعد اضغط هنا واجبات المفتش الأول اضغط هنا واجبات ومسئوليات مدير الإدارة اضغط هنا الاجتماعات والتقارير اضغط هنا خاتمة اضغط هنا